أولمبياد لندن... وزعامة العالم
السباقات النهائية أجريت، والشعلة الأولمبية أطفئت، والرياضيون عادوا إلى بلدانهم حيث تنتظرهم عقود الإعلانات أو سيطويهم النسيان. والآن، نستطيع التركيز على سؤال الألعاب الأولمبية الذي يفكر فيه الجميع في الواقع: ما الذي تكشفت عنه الحصيلة النهائية للميداليات بشأن النظريات المعاصرة للعلاقات الدولية؟
بالنسبة للأشخاص الذين انتابهم القلق بشأن تراجع قوة الولايات المتحدة يمكنهم تنفس الصعداء الآن لأن هذا ما زال عالم الصدارة الأميركية: فالولايات المتحدة هي الأولى عالمياً. ومثلما كان عليه الحال في كل الألعاب الصيفية منذ 1996 -باستثناء بكين في 2008، عندما حصد البلد المستضيف العدد الأكبر من الميداليات الذهبية- فإن الرياضيين الأميركيين فازوا بأكبر عدد من الميداليات بشكل عام، وكذلك من حيث الذهب المتحصل عليه.
ولكن الصدارة ليست هي الهيمنة أيضاً. فالولايات المتحدة حصلت على 104 ميداليات في المجموع، 46 منها ذهبية؛ وفاز الأميركيون بـ15 في المئة من كل الميداليات الذهبية بينما فاز الرياضيون الذين يمثلون 84 بلداً آخر بـ89 في المئة من مجموع الميداليات وبـ85 في المئة من الذهب. وعلى سبيل المقارنة، ففي 1988 حصل 52 بلداً فقط على ميداليات من مختلف الأنواع. وعليه، فإن القوة الأولمبية، وعلى غرار القوة الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، باتت أكثر انتشاراً وتوزيعاً على صعيد عالمي. وبذلك، يمكن القول إن اللاقطبية، وليس انعدام القطبية الأحادية ولا حتى التعددية القطبية، هي التي تميز القرن الحادي والعشرين.
ومما لاشك فيه أن الصين آخذة في الصعود بالفعل. ففي ألعاب سيئول 1988، فازت الصين بـ28 ميدالية، خمس منها فقط ذهبية. أما اليوم، وبعد ربع قرن على ذلك، فقد جاءت الصين في المرتبة الثانية خلف الولايات المتحدة، بـ88 ميدالية، 38 منها ذهبية. غير أن هذا يمثل في الواقع نوعاً من التراجع مقارنة مع الألعاب الأخيرة. تراجع يمكن أن نعزيه إلى فقدان الصين لعامل الأرض والجمهور، أو يمكن أن يكون دليلاً آخر على أن انتقالاً سياسياً واقتصادياً صعباً يضعف طاقة البلاد وتركيزها.
غير أن ألعاب لندن لم تمثل بالنسبة للعديد من الصينيين سوى أحدث مثال لتكالب العالم عليهم. فقد كان ثمة غضب عارم في الصين بسبب اتهامات للسباحة "يي شيوين" باستعمال المنشطات؛ وبسبب إقصاء فريق البادمينتون لتعمده اللعب بمستوى ضعيف من أجل تحسين حظوظه في الجولة التالية، وبسبب التحكيم في منافسات الجمباز الذي منح أحد أفضل رياضيي الصين ميدالية فضية بدلاً من ميدالية ذهبية. إنه تذكير بأن المشاعر القومية يمكن أن تصبح قوة أكبر في الصين إذا ازدادت مشاعر الإحباط الشعبي في وقت يتباطأ فيه الاقتصاد وتكبح فيه الحرية. ولحسن الحظ أن الألعاب الأولمبية ليست لها علاقة بالسياسة!
وقد حققت روسيا نتائج جيدة جداً أيضاً عبر حلولها في المرتبة الثالثة من حيث مجموع الميداليات، والمرتبة الرابعة من حيث الذهب، وخاصة إذا أخذنا في عين الاعتبار أنها بلد عدد سكانه يبلغ 143 مليون نسمة، أي أقل من نصف عدد سكان الولايات المتحدة، ونسبة 11 في المئة فقط من عدد سكان الصين. وللإشارة، فإذا قمنا بجمع عدد الميداليات التي حصلت عليها روسيا مع تلك التي حصلت عليها أوكرانيا وكازاخستان والجمهوريات السوفيتية السابقة الأخرى، فإن الاتحاد السوفييتي القديم كان سيفوز بمعظم الميداليات، وكان سيتعادل مع الولايات المتحدة تقريباً من حيث الذهب؛ وهذا دليل آخر على أننا محظوظون لكون الحرب الباردة انتهت بالفعل.
وكذلك بلدان منطقة اليورو الـ17 كان أداؤها جيداً: 168 ميدالية، 41 منها ذهبية. وهنا على الأقل لا توجد علاقة بين التفكك المالي والإنجازات الرياضية، ولكن ذلك من المستبعد أن يقنع البريطانيين بإنهاء معارضتهم للانضمام إلى منطقة اليورو، فهم يبلون بلاءً حسناً بمفردهم. وبالفعل، فإن الـ65 ميدالية التي حصدتها بريطانيا (29 منها ذهبية) تعادل أكثر من ميدالية واحدة لكل مليون نسمة من السكان. وبهذا المعدل، فإن كلاً من الصين أو الهند، لو طبق هذا المعيار، كانت ستحصد كل ميدالية ممنوحة وأكثر.
وبالطبع، فإن نجاح بريطانيا هذا العام يمثل فأل خير بالنسبة للبرازيل، مستضيفة ألعاب 2016. وقد فازت البرازيل بـ17 ميدالية (ثلاث منها ذهبية) هذا العام، وإذا تكرست القاعدة، فإنها ستفوز بعدد أكبر بكثير من الميداليات في المرة المقبلة. والواقع أنه يجدر بها ذلك إذ ما جدوى أن تكون بلداً صاعداً إذا لم تصعد إلى الواجهة أبداً؟
ولكن ماذا عن صعود البلدان الأخرى؟ الواقع أن جمايكا وكينيا دليلان على أن حتى البلدان الصغيرة يمكن أن يكون لديها رياضيون عالميون. ولكن الهند، بالمقابل، كانت واحداً من أقل البلدان المتنافسة نجاحاً، إذ لم تفز سوى بميداليتين فضيتين وأربع ميداليات برونزية في لندن على رغم أن عدد سكانها يبلغ أكثر من 1,2 مليار نسمة، وهو ما يعزز الرأي القائل بأن الهند غير مستعدة بعد للانضمام إلى مصاف القوى الكبرى.
وفي هذه الأثناء، حصدت اليابان أكبر عدد من الميداليات في تاريخ مشاركاتها في الألعاب، بـ38 ميدالية، ولكنها تراجعت من حيث الذهب إذ لم تحصل سوى على 7 ميداليات، أي أقل بكثير من الـ16 ميدالية التي فازت بها في كل من 1964 و2004. وعلى غرار اقتصادها، يمكن القول إن أداء اليابان في الألعاب هو نتيجة انجراف أكثر منه نتيجة اتجاه.
أما الشرق الأوسط، فما زال وفياً لنتائجه الضعيفة التي تعتبر أسوأ من أي منطقة أخرى في العالم. فالمنطقة تدفع ثمن الحكامة السيئة وقلة الفرص المتاحة للنساء، في الألعاب الأولمبية وفي كل مجال آخر. غير أنه من ناحية أخرى يمكن التماس العذر للشرق الأوسط لأن بعض شعوب المنطقة كانت منشغلة مؤخراً بخلع أنظمة قمعية. ولذلك، فإنه يمكن أن نعذر الأشخاص القاطنين في "ميدان التحرير" على عدم تمكنهم من الوصول إلى "ميدان الطرف الأغر".
ريتشارد هاس
رئيس "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"